النّاسك و الخمّار
زعموا أن ناسكا اتخذ مغارة في قمّة
جبل يتعبّد فيها و كان يخرج كل
سنة مدّة اسبوع للقاء اهل قريته
من مريديه . فينهلون من بحره
و يقتبسون من زهده فيسمون
أعلى من القمّة في جوّ من الزهد
و صفاء الرّوح. فإذا انقضى الأسبوع
عاد الى كهفه لا يغادره إلّا بعد مرور
سنة من التّأمل و التبتّل. و عاد
المريدون الى القرية بعد أن تخلّصوا
من أدران الدّنيا الزّائفة و قاوموا
الشّهوات بالجوع لمدّة أسبوع كامل
قرب الشيخ حيث تعلّموا حب فعل
الخير و الإيثار و ترك الشّهوات.
و كانوا إذا وصلوا إلى سفح الجبل
عند مدخل القرية مرّوا بخمّارة
صاحبها يعدّ عند صعودهم حساء
بكراع الخنزير ؛ هرقمة بكراع
الحلوف؛ مجّانا فيقبل عليه المارّون
على مضض لعلمهم بطول مدة
الجوع المقبلين عليه و يسبّون في
سرّهم الخمّار تاجر الشهوات.
وكانوا إذا وصلوا عند النّاسك
يفرزهم إلى فريقين . فريق أكل
و شكر و فريق أكل و كفر .
فيسجدون له رهبة و يزدادون له
تعظيما و اجلالا. فأمّا الذين شكروا
فيطلقهم لمدّة يوم يسيحون في
الغابة يطعمون من ثمرها و يمسك
الجاحدين تحت الشّمس لا ماء و لا
طعام. و الجميع مستغرب كيف
عرف الشيخ ما في قلوبهم.
و عند نزولهم يعدّ الخمّار أفضل
المشاوي من الخرفان و العجول و
أشهى أنواع الخبز بأغلى الأثمان.
فيمرّون و قد هدّهم الجوع
و أرهقهم صوم اسبوع فيلفون
الخمّار واقفا بالباب بيده مدية
تقطر دما. فأمّا الذين أمسكهم
الشيخ عن الغابة فيمرّون غير
مكترثين بالروائح و رزّ البطن .
ويقبل كثير من الآخرين على
اللذائذ ناسين المواعظ، لقد نجحوا
في الامتحان فلم تعد هناك
حاجة إلى الدّرس.
فإذا عاد الجميع من العام القادم
عاقب الشيخ الجاحدين و النّاكرين
و النّاسين رغم ما يبدونه من تصنّع.
سأل أحدهم وهو أنجبهم و تجرّأ
على سيّدنا : كيف تعرف ما في
قلوبنا؟ فأجاب : أترون تلك العصا
المنصوبة في وسط الطريق؟
الصّادقون يمرّون عن يمينها
و الكاذبون عن شمالها.
ثمّ أعطى للسّائل العصا .
لمّا مرّوا بالخمّارة انتصب صاحب
العصا في وسط الطريق و جعل
الخمّارة على شماله فسار مرافقوه
كلّهم على يمينه و تركوا الخمّار
حائرا. فجعل يسأل حتى علم بأمر
العصا فسرى إلى حاملها ليلا و
ساومه عنها حتى أوقع به بعد
مساومة عنيدة دفع فيها
ثمنا باهضا.
و لمّا أفاق حامل العصا من غفلته
و تذكّر انّ عليه محاسبة الناسك
بها في العام القادم طلب
استرجاعها لكن هيهات. فتوسّل
للخمّار ووعده بأن يعيد له ثمنها
أضعافا مضاعفة.
فكان إذا أخطأ أحد القرويين
أدّبه بها و أنزل عليه غرامة يعجز
عن أدائها فيصادر أرضه أو بيته
ثمّ يتنازل عمّا صادر بأبخس
الاثمان الى الخمّار. لم يفق السكان
الا و صاحب الحانة قد تملّك نصف
القرية فتعاهدوا على الّا يشتكوا
بعضهم بعضا الى حامل العصا
و على الّا يخطئوا، فموعد
الشيخ قد قرب.
أكلوا من الهرقمة بكراع الخنزير
و شكروا صاحب الحانة و تسلّقوا
الجبل إلى المغارة حيث الناسك
فلم يعثروا عليها ، و ظلّوا يبحثون
عنها في الجبل حتى تاه كثير
منهم أو افترسته السباع. فعاد من
بقي منهم الى القرية يجرّ خطيئته
فلمّا يمرّ بالخمّارة يلفي النّاسك
واقفا عند بابها متبسّما بيده
مدية تقطر دما.
جمال الطرودي / تونس